في إحدى ليالي الشتاء الباردة كانت إسطنبول istanbul تتلألأ بأضوائها الجميلة، كعروس ترتدي فستانًا من اللؤلؤ والنجوم.
كانت الثلوج تتساقط والرياح تعصف بشوارع المدينة ، وتحمل معها رائحة البحر والمطر وكان الجميع في المدينة يرتدون معاطفهم الثقيلة إلا أنا وكان وقتها يحترق قلبي في الداخل .
وفي ليلة من تلك الليالي الباردة ، استيقظت من النوم وأنا أشعر بضيق شديد في التنفس ، ففتحت النافذة ورأيت المطر يتساقط والرياح قوية جدا فأغلقت النافذة فورا ، وبدأت ألبس ثيابي وخرجت من البيت لأشم وآخذ بعضا من الهواء ، ثم مشيت شوارع اسطنبول istanbul الكبيرة وكنت حاملا مظلة لكي تحميني من المطر والثلوج .
وبعدة ساعة مررت بمقهى صغير قرب جسر غلاطة ، كان هناك شاب يدعى ياسين ، كان ياسين فنانًا شغوفًا يرسم لوحات تمزج بين جمال اسطنبول القديم وحداثتها ، وفي تلك الليلة كان يجلس في الزاوية ، يتأمل الناس ويعزف على أوتار قلبه وكان يشعر بأن الإلهام يراوده ولكن البرودة كانت تحبطه.
بينما كنت أشرب قهوتي الساخنة دخلت إلى المقهى فتاة تدعى لينا ، كانت ترتدي وشاحًا أحمر يلف عنقها، وعينيها تحملان لمعة دافئة في ذلك الجو البارد كأن هناك شيء خاص في تلك اللحظة، كما لو كان الوقت قد توقف.
بدأت لينا تتجول في المقهى وعيناي تتبعان من بعيد ، وكانت تفحص لوحات ياسين المعروضة على الحائط وقمت من مكاني كي أذهب عندها ، تقدمت نحو ياسين وسألته: “هل يمكنك أن تخبرني عن قصص هذه اللوحات؟” لكن ياسين لم ينتبه إليها وظل مشغولا بعزفه ولكن أجبتها أنا بدل ياسين ، ابتسمت وقالت حسنا يبدوا أنك لست فنانا اشرح لي ماذا تعني هذه اللوحات إذا تستطيع ذلك ، وبدأت أروي لها عن كل لوحة وكل قصة تحملها وكل شعور تعني فيها ، وتفاعلنا كثيرا وتدريجيًا اكتشفنا أننا نتشارك شغف الفن رغم اختلاف أساليبنا وأفكارنا .
مر الوقت سريعًا وعندما نظرت لينا إلى ساعتها لاحظت أن الليل قد تأخر لكن لم يكن في قلبها رغبة في المغادرة قررت أن تبقى قليلاً فكل لحظة كانت معي تحمل لي دفئًا خاصًا.
تحدثنا عن أحلامنا وعن المدينة التي نحبوها وعن الأوطان التي نحب أن نزورها وعن فلمنا المفضل وعن الكتاب الذي نحبه وغير ذلك .
لينا كانت تدرس الأدب وكانت تحلم بأن تكتب رواية تروي قصص الناس في اسطنبول ، وكنت أشاركها رؤيتي أن كل شخص في اسطنبول يحمل قصة فريدة وكل زاوية في المدينة تروي حكاية مختلفة عن الباقي .
مع مرور الوقت بدأت الثلوج تتساقط في الخارج وغطت المدينة ببطانية بيضاء ناعمة ، كانت الأضواء تعكس على الثلج مما جعل كل شيء يبدو سحريًا ، عرضت على لينا أن نتجول قليلاً في المدينة فوافقت بكل سرور.
خرجنا معًا إلى الشارع والثلوج تتساقط من حولنا ، كانت الشوارع تبدو وكأنها تنبض بالحياة ، حيث يجتمع الناس في الميادين وتسمع ضحكات الأطفال وهم يلعبون في الثلج ، توقفنا أمام نافورة قديمة وكان صدى الماء يتردد في الهواء البارد.
قالت لينا : “إن إسطنبول في الشتاء تحمل سحرًا خاصًا ” اتفقت معها ، وبدأت أشرح لها عن الأساطير القديمة المرتبطة بالمدينة وكيف أن كل حجر وكل زقاق يحمل قصة من تاريخها الغني.
استمرت رحلتنا عبر الأزقة الضيقة والأسواق التقليدية وكان لدينا شعور بأن المدينة تحتضننا ، وكأنها تعرف أسرارنا وتشارك أحلامنا.
ذهبنا إلى مطعم صغير لتناول الطعام حيث استمتعنا بالأسماك المشوية والمشروبات الساخنة.
مع اقتراب الليل من نهايته أدركت أنني قد وقعت في حب لينا لكن كان لدي خوف من أن تفترق طرقنا بعد هذه الليلة، لذلك قررت أن أعبرعن مشاعري تجاهها ، أخذت نفسًا عميقًا وقلت: “لينا لقد وجدت فيك شيئًا خاصًا كأنك جزء من لوحتي الكبرى.”
ابتسمت لينا وكانت عيناها تلمعان في ضوء الشموع وقالت “وأنا أيضًا أشعر بشيء مميزفيك ، ربما هذه الليلة ليست مجرد صدفة بل بداية شيء أجمل.”
وبعد ذلك وصلت لينا إلى بيتها وعدت أنا أيضا إلى بيتي ، وعندما كنت في سريري تذكرت المقهى حيث تركنا أنا ولينا جزءًا من قلوبنا بين الألوان والأصوات العزف .
في تلك الليلة من ليالي إسطنبول istanbul الباردة تشكلت بداية قصة جديدة حيث لم تكن إسطنبول مجرد مدينة، بل أصبحت منزلًا للأحلام والحب.
ومع انحسار الثلوج في الأيام التالية استمرت علاقتنا أنا ولينا في استكشاف جمال إسطنبول معًا، وكنا نبني ذكريات دافئة في قلب المدينة الباردة ونؤكد أن الحب يمكن أن يزدهر حتى في أبرد الليالي.
وبعد شهر خطبت لينا من أهلها ولبسنا الخواتم وفرحنا كثيرا ، وبدأنا نلتقي كل يوم في استكشاف جمال إسطنبول وأول محطة كانت في منطقة السلطان أحمد حيث زرنا جامع السلطان أحمد وكانت الألوان والتفاصيل المعمارية أسرتنا، وقفت أمام القبّة الزرقاء المهيبة وتأملت الزخارف الرائعة وشعرت أنني في قلب التاريخ حيث تجتمع الثقافات والأديان.
بعد ذلك اتجهنا إلى آيا صوفيا كانت هناك عظمة في المبنى، كأنها تحكي قصصًا من العصور القديمة وكانت الجدران مليئة بالألوان والنقوش، واحتفظت بعبق الماضي في كل زاوية ووقفت هناك وتمنيت لو أنني أستطيع فهم كل ما مرت به هذه الأماكن.
قضينا الأيام التالية نتجول في الأسواق القديمة وزرنا بازار التوابل وبازار غراند وكانت الروائح تتداخل من البهارات إلى الحلويات. تسوقت بعض الهدايا التذكارية واكتشفت أن الناس هنا يتعاملون بلطف وحفاوة، مما جعلني أشعر وكأنني في منزلي.
ثم جاء يوم قضاء الوقت في منطقة كاديكوي على الجانب الآسيوي من إسطنبول وكانت الأجواء هنا مفعمة بالحياة والمقاهي مليئة بالناس الذين يتبادلون الأحاديث.
جلسنا وأنا وخطيبتي في أحد المقاهي ، واحتسينا الشاي مع الكعك التقليدي وكانت الأحاديث تدور حول الأمل والطموحات وتمنياتنا للمستقبل.
وفي ليلة من الليالي قررنا زيارة جسر غلاطة مرة أخرى وهنا عرضت خطيبتي لينا للزواج ووافقت ، وقفنا هناك قليلا ونحن صامتين ونحترم هذا المكان الذي جمعنا وجعلنا رفقاة وبسببه نتزوج ، وشاهدنا المدينة تتلألأ بأضوائها وكان المنظر ساحرًا، حيث يتمازج ضوء القمر مع الأضواء الساطعة للمدينة. تحدثنا عن أحلامنا وكيف أننا نحاول العثور على مكاننا في هذا العالم المتغير، كانت تلك اللحظة تشعرك بأنك جزء من شيء أكبر.
مع اقتراب رحلتي من نهايتها، شعرت بمزيج من الحزن والامتنان. كانت هذه الأيام قد أعادت إليّ الروح، وجعلتني أكتشف جمال الحياة. كانت إسطنبول مليئة بالقصص والتجارب والناس الذين سيتبقى في ذاكرتي إلى الأبد.
وفي اليوم الأخير قررنا زيارة البسفور وكنت أشعر ببرودة المياه تحتنا والمنظر كان رائعًا ، حيث كانت الجسور تعبر بين الضفتين، والمراكب الصغيرة تبحر في المياه وتذكرت عائلتي وأصدقائي وكنت أشعر بأنني سألتقيهم بحفلة زواجي أنا ولينا .
تزوجنا أنا ولينا وقررنا أن نقضي شهر العسل بالسفر حول العالم ، زرنا أوطانا وجزرا وسافرنا برا وبحرا وجوا وعشنا حياة سعيدة وتجربة ناجحة ، وبعدها كتبنا قصتنا وسميناها ليالي إسطنبول istanbul الباردة